فصل: كلام نفيس وجامع لابن القيم في الحيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الإمام أحمد رحمة الله: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم.
وقال الميمونى: قلت لأبى عبد الله: من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. قلت: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم.
فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي علقت بها الأحكام ليس بمحتال الحيل المذمومة.. وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها.
وغرض الإمام أحمد بهذا: الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التي تسلك لإبطال مقصوده.
فهذا هو سر الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن في النوع الثانى.
قال شيخنا: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه:
الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 8- 9] وقال تعالى: {إِنَّ الُمْنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهٌمْ} [النساء: 142].
وقال في أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62].
فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون، وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه، وأنه يكفى المخدوع شر من خدعه.
والمخادعة: هي الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخادع. وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة. فإنهم يقولون: طريق خيدع، إذا كان مخالفًا للقصد لا يشعر به ولا يفطن له، ويقال للسراب الخيدع، لأنه يغر من يراه، وضب خدَعِ، أي مراوغ. كما قالوا: أخدع من ضب، ومنه: «الحرب خدعة» وسوق خادعة، أي متلونة، وأصله: الإخفاء والستر. ومنه سميت الخزانة مخدعًا.
فلما كان القائل آمنت مظهرًا لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعًا، بل مريد لحكمها وثمرتها فقط مخادعًا، كان المتكلم بلفظ بعت واشتريت وطلقت ونكحت وخالعت وآجرت، وساقيت وأو صيت غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعًا، بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له، أو ضد ما شرعت له مخادعًا. ذاك مخادع في أصل الإيمان، وهذا مخادع في أعماله وشرائعه.
قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين.
يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما «أنه جاءه رجل فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثا، أيحلها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه».
وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن العينة، يعنى بيع الحريرة؟ فقال: إن الله تعالى لا يخدع، هذا ما حرم الله تعالى ورسوله. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بمُطَين في كتاب البيوع له.
وعن ابن عباس: أنه سئل عن العِينة، يعنى بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله تعالى ورسوله، رواه الحافظ أبو محمد النخشى.
فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصود به الربا خداعًا لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن والمعوّل عليهم في فهم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دِلسة.
قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة.
وقال أيوب السختيانى في المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانًا كان أهون علىّ.
وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة.
وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنهم يريدون سلمه، وهم يقصدون بذلك المكُر به من حيث لا يشعر. فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه. كما أن المحلل والمرابى يظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا الطلاق بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد، من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل، فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعًا أو عرفًا خديعة.
قال: وتلخيص ذلك أن مخادعة الله تعالى حرام، والحيل مخادعة لله.
بيان الأول: أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم، وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم.
وبيان الثانى: أن ابن عباس وأنسًا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى، وهم أعلم بكتاب الله تعالى.
الثانى: أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه كما تقدم.
الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام، ومراده غيره، سمى مخادعا لله تعالى، وكذلك المرابى. فإن النفاق والربى من باب واحد. فإذا كان هذا الذي أظهر قولًا غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه، وهذا الذي أظهر فعلًا غير معتقد ولا مريد لما شرع له مخادعًا. فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شرع له. وإذا كان مشاركًا لهما في المعنى الذي سميا به مخادعين وجب أن يشركهما في اسم الخداع، وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق.
الوجه الثانى: أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين وهو يريد بها حقائقها المقومة لها، ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسئ عشرتها ولا حاجة في نكاحها، أو ينكحها ليحلها لمطلقها، لا ليتخذها زوجًا، أو يخلعها ليلبسها، أو يبيع بيعًا جائزًا ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوًا. يوضحه:
الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته؟ طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك؟» فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئًا بآيات الله تعالى، متلاعبًا بحدوده. ورواه ابن بطة بإسناد جيد، ولفظه «خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك».
الوجه الرابع: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد «أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» الحديث، وقد تقدم. فجعله لاعبًا بكتاب الله، مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به، فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقًا يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقًا لا يملك فيه ردها.
وأيضًا فإن المرتين والمرات في لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم: لما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى وما دل عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع؟.
الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم ما بلاهم به في سورة ن وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم، إذا جذوا نهارًا، بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق لئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفًا وهم نائمون فأصبحت كالصريم. وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجئ المساكين، فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.
الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر [الأعراف: 163- 167] عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففى هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهى الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها، ليس المحتال على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه. ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا والله أعلم مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفى بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة. فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردة، يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقًا، يوضحه:
الوجه السابع: أن بنى إسرائيل كانوا أكلى الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله تعالى في كتابه، وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام في يوم بعينه، ولذلك كان الربا والظلم حرامًا في شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم أن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة. فيشبه، والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرمًا إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته. ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يقضى به إلى خير ورحمة. ومن أكله مستحلًا له بنوع احتيال تأول فيه، فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام، وذلك قد يفضى به إلى شر طويل.
وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث قد تقدم بعضها في هذا الكتاب كقوله في حديث أبى مالك الأشعرى، الذي رواه البخارى في صحيحه: «وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يوْمِ الْقِيَامَةِ».
وقوله في حديث أنس: «لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ».
وفى حديث أبى أمامة أيضا: «يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الامَّةِ عَلَى طعْمٍ وَشرْبٍ وَلَهْوٍ فَيُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ».
وفى حديث عمران بن حصين: «يَكُونَ في أُمَّتِى قَذْفٌ وَمَسْخٌ وَخَسْفٌ».
وكذلك في حديث سهل بن سعد وكذلك في حديث على بن أبى طالب، وقوله: «فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، وخسفًا، ومسخًا».
وفى حديثه الآخر: «يمسخ طائفة من أمتى قردة وطائفة خنازير».
وفى حديث أنس رضي الله عنه «ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ».
وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه «يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير. قالوا: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون. قالوا: فما بالهم لله؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، القينات، فباتوا على شربهم ولهوهم. فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير».
وفى حديث جبير بن نفير: ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف. فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف، والقذف، والمسخ، والصواعق.
وقال سالم بن أبى الجعد: ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم، فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قردًا أو خنزيرًا، وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قردًا أو خنزيرًا.